تحوّل الغرب تجاه إسرائيل- ضغوط متزايدة أم تغيير جذري؟

المؤلف: د. محمود الحنفي09.02.2025
تحوّل الغرب تجاه إسرائيل- ضغوط متزايدة أم تغيير جذري؟

في شهر مايو/ أيار من عام 2025، بدا أن منعطفًا جوهريًا قد طرأ على السياسات الغربية الرسمية حيال الصراع الدائر في غزة، حيث تجسد ذلك في استخدام لغة قانونية قاسية لوصف التجاوزات، والإعلان عن إعادة تقييم العلاقات مع تل أبيب، بالإضافة إلى تصاعد المطالبات بتقييد التعاون العسكري والاقتصادي.

الجدار الغربي المتين الذي بدا وكأنه يوفر دعمًا كاملًا لإسرائيل لسنوات طويلة، بدأ يتصدع بشكل ملحوظ، ولم يقتصر الأمر على وسائل الإعلام والنقابات، بل امتد ليشمل البرلمانات والحكومات نفسها.

يبقى السؤال المحوري الذي يطرح نفسه بإلحاح: ما الأسباب الكامنة وراء هذا التحول المفاجئ؟ ما الذي أتاح لهذا التغيير أن يتبلور بعد عقود من الصمت أو التواطؤ الظاهر؟ وما هي الظروف والتطورات المختلفة – سواء على الصعيد الإقليمي أو الحقوقي أو الداخلي – التي أدت إلى هذا المشهد المستجد؟

والأهم من ذلك، إلى أي مدى ستؤثر هذه المواقف والضغوط الجديدة – على الرغم من أنها لم تصل بعد إلى مستوى العقوبات الشاملة – على سلوك إسرائيل على أرض الواقع؟ وهل يمكن التعويل عليها لإحداث تغيير جذري في الحصانة السياسية التي أحاطت بها نفسها لعقود طويلة؟

سنحاول في هذا المقال تقديم إجابات وافية لهذه التساؤلات من خلال رصد أبرز سمات المواقف الغربية المستجدة، وتحليل الدوافع الكامنة وراءها، وتقييم حدود هذه المواقف وإمكاناتها المستقبلية.

هل نشهد بداية تحول جوهري في طبيعة العلاقات بين الغرب وإسرائيل، أم أننا أمام موجة عابرة من الاستياء الأخلاقي ستتلاشى سريعًا أمام اعتبارات السياسة الواقعية؟

أولًا: مواقف غربية رسمية غير مسبوقة

في الأسبوع الأول من شهر مايو/ أيار لعام 2025، شهد الخطاب الأوروبي تحولًا ملحوظًا في طريقة تعامله مع إسرائيل، وذلك من خلال اتخاذ مواقف رسمية تميزت بصراحة قانونية قوية واتخاذ خطوات عملية غير مألوفة، مما يشير إلى كسر حاجز التردد الدبلوماسي الذي طالما هيمن على العلاقات الغربية الإسرائيلية.

إدانة خطط إسرائيل.. وتثبيت مكانة فلسطين القانونية

في الفترة ما بين 7 و8 مايو/ أيار، أصدرت ست دول أوروبية هي: (أيرلندا، إسبانيا، سلوفينيا، لوكسمبورغ، النرويج، وآيسلندا) بيانًا مشتركًا اعتبرت فيه أن محاولات إسرائيل لتغيير التركيبة السكانية في غزة وتهجير سكانها يعد ترحيلًا قسريًا وجريمة بموجب القانون الدولي. وأكد البيان أيضًا أن غزة "جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين"، في اعتراف قانوني صريح بمكانة فلسطين، وهو الأمر الذي طالما تجنبته الحكومات الأوروبية.

اتهام إسرائيل بانتهاج سياسة الحصار والتجويع

البيان ذاته أدان الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 2 مارس/ آذار، ووصفه بأنه "حظر شامل للمساعدات الإنسانية والإمدادات التجارية"، وطالب برفعه الفوري دون أي تمييز أو شروط مسبقة.

كما أكدت منظمة الصحة العالمية في 12 مايو/ أيار أن غزة تواجه إحدى أسوأ أزمات الجوع في العالم، مع وفاة العشرات من الأطفال، ووصفت الوضع بأنه ناتج عن "حرمان متعمد من الغذاء"، في توصيف يقترب من اعتبار التجويع جريمة حرب أو حتى جريمة إبادة محتملة.

رفض الآلية الأميركية - الإسرائيلية لتوزيع المساعدات

في 19 مايو/ أيار، أصدرت 22 دولة، من بينها فرنسا، ألمانيا، المملكة المتحدة، وكندا، بيانًا مشتركًا أعربت فيه عن رفضها للآلية الجديدة التي اقترحتها إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة لتوزيع المساعدات في غزة.

واعتبرت هذه الدول أن "النموذج الجديد" يفتقر إلى الفعالية، ويربط المساعدات بأهداف عسكرية وسياسية، ويقوض حيادية الأمم المتحدة، ويعرض العاملين والمستفيدين للخطر. كما شددت على أن سكان قطاع غزة "يواجهون المجاعة ويجب أن يحصلوا على المساعدات التي هم في أمس الحاجة إليها".

مطالبات بحظر التسليح ومراجعة الشراكات

أظهرت هولندا تحولًا واضحًا في خطابها التقليدي تجاه إسرائيل. فقد صرح وزير خارجيتها كاسبر فيلد كامب بأنه يجب "رسم خط أحمر" من خلال مراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية مع إسرائيل، وأعلن تجميد أي دعم حكومي لتمديدها.

كما قامت السلطات الهولندية بتشديد الرقابة على تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج منذ أبريل/ نيسان. وفي أيرلندا، صوت مجلس الشيوخ بالإجماع في أواخر أبريل/ نيسان لصالح فرض عقوبات على إسرائيل ومنع مرور الأسلحة الأميركية عبر الأجواء الأيرلندية، في خطوة رمزية ولكنها تعكس بوضوح تغير المزاج التشريعي والمؤسساتي.

تحركات جادة نحو الاعتراف بدولة فلسطين

من بين أبرز مظاهر التحول أيضًا، التلويح المتزايد من قبل عدد من الدول: (فرنسا، لوكسمبورغ، إسبانيا، أيرلندا، سلوفينيا)، بالاعتراف بدولة فلسطين كضرورة سياسية لحماية حل الدولتين.

وكانت أيرلندا، وإسبانيا، والنرويج قد سبقت هذه الدول بالاعتراف الرسمي بدولة فلسطين في مايو/ أيار 2024، ثم تبعتها سلوفينيا في يونيو/ حزيران، مما رفع عدد دول الاتحاد الأوروبي المعترفة بفلسطين إلى عشر دول على الأقل، معظمها من دول أوروبا الغربية، وهو ما يشكل تحولًا غير مسبوق في هيكل العلاقات الأوروبية الإسرائيلية.

انضمام بريطانيا إلى مسار التحول

وفي تطور لافت، أعلن وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي خلال جلسة للبرلمان في 20 مايو/ أيار 2025، تعليق المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل، وفرض عقوبات على ثلاثة مستوطنين ومنظمتين إسرائيليتين متورطتين في أعمال عنف في الضفة الغربية.

كما وصف الحصار المفروض على غزة بأنه "غير أخلاقي ولا يمكن تبريره"، مطالبًا برفعه الفوري، بينما دعا رئيس الوزراء كير ستارمر إلى وقف إطلاق النار، وزيادة المساعدات الإنسانية، مؤكدًا أن "مستوى المعاناة في غزة لا يُحتمل".

ثانيًا: ضغط الشارع، وانكشاف الفظائع

ولكن يبقى السؤال: لماذا الآن؟ وهل هذا التحول الغربي يمثل لحظة عابرة أم بداية لتغيير بنيوي أعمق؟

إن التحول في المواقف الغربية تجاه إسرائيل لم يكن نتيجة لقرار سياسي منعزل أو صحوة أخلاقية مفاجئة، بل كان ثمرة لتراكم غير مسبوق من الضغوط الإعلامية والشعبية والحقوقية والدبلوماسية، والتي تضافرت كلها في لحظة انكشاف عالمي كامل لما يحدث في غزة. إن الإجابة على سؤال "لماذا الآن؟" تكمن في هذه اللحظة الكاشفة التي أصبح فيها التغاضي الغربي مرادفًا صريحًا للتواطؤ.

فقد اجتاحت صور الأطفال الذين قضوا جوعًا، ومشاهد الدمار الشاملة، والمقابر الجماعية، والمجازر المتواصلة، وسائل الإعلام التقليدية والمنصات الرقمية على الرغم من محاولات التعتيم. حتى عالم الفن والثقافة انخرط في الإدانة، كما حدث عشية مهرجان "كان" حين وقع أكثر من 350 فنانًا عالميًا على رسالة وصفت ما يحدث في غزة بأنه "إبادة جماعية". بالتوازي مع ذلك، قامت منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش واليونيسيف بتوثيق تفاصيل الجرائم بدقة مؤلمة.

في الولايات المتحدة، بدأت موجة الاحتجاجات الشعبية تتصاعد بقوة في أواخر عهد الرئيس السابق جو بايدن، وسط اتهامات علنية لإدارته بالتواطؤ في الجرائم المرتكبة في غزة، وتحول وسم "Genocide Joe" إلى رمز للاحتجاج الرقمي.

ومع وصول إدارة ترامب الثانية، استمرت التظاهرات، لا سيما في الأوساط الجامعية والنقابية، احتجاجًا على استمرار الدعم غير المشروط لإسرائيل، وإن اتخذت طابعًا أكثر تحديًا للخطاب الرسمي الصدامي.

أما في أوروبا، فقد شهدت عواصم كبرى مثل مدريد ودبلن ولاهاي وأوسلو مظاهرات حاشدة طالبت بوقف فوري للحرب ومحاسبة إسرائيل. ومن بين أبرز التحركات المؤسسية، كان تصويت اتحاد النقابات النرويجي (LO) بنسبة 88٪ لصالح مقاطعة شاملة لإسرائيل، تشمل سحب صناديق التقاعد من الشركات الداعمة للاحتلال، وهي خطوة غير مسبوقة في أوروبا.

ترافق الضغط الشعبي مع تصدعات في الخطاب السياسي: أكثر من 53 ألف شهيد فلسطيني، من بينهم 15 ألف طفل؛ دمار شامل للبنية التحتية: (الصحية، التعليمية، الزراعية…)؛ ومجاعة جماعية موثقة من قبل الأمم المتحدة.

وعلى الرغم من ذلك كله، يبقى السؤال قائمًا: هل نحن بصدد تغيير بنيوي في السياسات الغربية، أم مجرد موجة غضب ظرفية ستتلاشى سريعًا؟

إن التحذير من "التراجع" أمر وارد، ولكن لا يمكن تجاهل المؤشرات الإيجابية: فدول مثل أيرلندا وإسبانيا، تبنت مواقف كانت تعتبر في الماضي راديكالية، بما في ذلك فرض قيود على العلاقات العسكرية والاعتراف بدولة فلسطين.

كما تشكلت تحالفات أوروبية تنسق مواقفها بجرأة، كما تجسد في البيان السداسي لوزراء خارجية آيسلندا وأيرلندا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا ولوكسمبورغ. كذلك بدأنا نلاحظ تغيرات داخل البرلمان الأوروبي نفسه، مع تصاعد الأصوات التي تطالب بمحاسبة إسرائيل قانونيًا.

ثالثًا: دور إعادة التموضع الإقليمي

لا يمكن فهم هذا التحول دون إدراك الترتيبات الجيوسياسية التي مهدت له. فبالتزامن مع تصاعد الخطاب الأوروبي المنتقد لإسرائيل، نشطت إدارة ترامب على جبهات إقليمية متعددة في مطلع مايو/أيار 2025.

ففي 7 مايو/ أيار، تدخلت واشنطن لاحتواء تصعيد عسكري خطير بين الهند وباكستان بالتعاون مع مجموعة السبع (G7). وفي اليمن، توسطت في هدنة بحرية بين الحوثيين والتحالف السعودي الإماراتي بوساطة عُمانية، مما أدى إلى خفض التوتر في البحر الأحمر.

هذا التهدئة الإقليمية سحبت من يد إسرائيل أوراق التهديد التي طالما استخدمتها لتبرير استمرار الحرب على غزة، وخاصة ما يتعلق بـ "محور إيران- الحوثيين- حماس".

وقد انعكس ذلك دبلوماسيًا في تراجع الحرج الأوروبي من اتخاذ مواقف علنية حادة تجاه تل أبيب. بل تشير تقديرات إلى دور خليجي غير معلن في هذه التهدئة، مقابل ضغوط أميركية على إسرائيل، مما سمح للغرب بإعادة التموضع دون الدخول في صدام مباشر مع واشنطن.

وهكذا، جاء التحول الغربي نتيجة لـ "ترتيب سياسي هادئ" أكثر مما هو لحظة أخلاقية خالصة. لكنه، وعلى محدوديته، خلق بيئة جديدة أكثر حرية للحكومات الأوروبية التي بادرت بتعليق الاتفاقيات، وفرض العقوبات، واستدعت السفراء، كما حدث في لندن ودبلن وأوسلو.

رابعًا: إسرائيل وجنوب أفريقيا

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل سيكون الوضع مشابهًا لما حدث في جنوب أفريقيا؟ وهل ستؤدي الضغوط الغربية إلى تحول حقيقي في سلوك إسرائيل؟

على الرغم من أن العقوبات الغربية المفروضة حتى الآن لم تصل بعد إلى مستوى الردع الفعلي، إلا أن تأثيرها الملموس بدأ يظهر على أكثر من صعيد. فتعليق صفقات الأسلحة، وخاصة من الدول الأوروبية، ووقف مرور هذه الأسلحة عبر الأجواء، كما فعلت أيرلندا، يعقد عملية الإمداد العسكري الإسرائيلي. كما أن حظر المواد ذات الاستخدام المزدوج يقيد تصنيع بعض مكونات الأسلحة الدقيقة. وتجميد الاتفاقيات التجارية، والتلميح بإعادة تقييم الشراكة مع إسرائيل من قبل كل من هولندا وفرنسا، يضع تل أبيب في مواجهة عزلة اقتصادية بدأت بالفعل.

ولا يقل التأثير السياسي أهمية: فتعرض إسرائيل لانتقادات حادة على المسرح الدولي، وتصدع صورتها كشريك غربي "طبيعي"، وعودة قضيتها إلى ساحات المحاكم والمنظمات الدولية، كلها تطورات تعيد تعريف التكلفة السياسية لجرائمها.

هذا الضغط لم يأتِ فقط من الحكومات، بل أيضًا من البنية المجتمعية الغربية: النقابات والجامعات والأحزاب ومن داخل البرلمانات التي كانت حتى وقت قريب تصمت أو تبرر.

وبهذا المعنى، فإن هذه الخطوات السياسية – على الرغم من محدوديتها – تمثل كسرًا للإجماع الغربي التقليدي حول الدعم المطلق لإسرائيل، وتفتح الباب أمام الانتقال من الإدانة الخطابية إلى أدوات ضغط ملموسة، بما في ذلك مراجعة الاتفاقيات وتعليق الشراكات وتقييد العلاقات الدبلوماسية، وهو ما قد يتطور لاحقًا إلى تدابير أكثر صرامة.

إنها لحظة تذكرنا، من حيث الشكل والمناخ الدولي، بالبدايات التي سبقت فرض العقوبات الشاملة على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، عندما بدأت الدول الغربية باتخاذ إجراءات تدريجية قبل أن تنهار شرعية النظام تحت وطأة الضغط المتراكم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة